أسس الفنانون التشكيليون العراقيون منذ منتصف القرن الماضي مدرسة فنية ذات ملامح خاصة أصبحت فيما بعد هوية هذا الفن، وقد تعاقبت اجيال الفنانين بعضها يكمل بعضاً بدأت بالرواد جواد سليم وفائق حسن وشاكر حسن آل سعيد ثم رافع الناصري وضياء العزاوي ومحمد مهر الدين وصولاً إلى الفنانين الشباب هذه الأيام وهم كثر داخل وخارج العراق. وقد نستطيع تقسيم مسيرة الفن التشكيلي العراقي بناءً على الاحداث السياسية لانها الأكثر حضوراً وتسجيلاً في التاريخ المكتوب والشفوي، ولكننا الآن لسنا بصدد الحديث عن هذا التقسيم وما أثاره هو قيام معرض مشترك بين الفنان المخضرم محمد مهر الدين والفنان الشاب دلير سعد شاكر، وكان المعرض بعنوان ـ حوار الأجيال ـ وأقيم في جاليري الاورفلي ورأينا ملامح هذا الحوار الذي بدأ مع الرواد وما زال قائماً إلى اليوم حيث الجيل الحاضر يبني على ما أنجزه الجيل الذي سبقه مستفيداً من الخبرات والتجارب والرؤى، ولكنه سرعان ما ينفرد لنفسه بأسلوب جديد ورؤية مختلفة عما سبق، ولا يبقى في عمله غير الملامح العامة التي توحد هذا الفن بمختلف اجياله بهوية واحدة. وما بين مهر الدين المولود عام 1938 ودلير سعد شاكر المولود عام 1971 ثلاثة عقود من مسيرة الفن العراقي. فكيف كان الحوار بينهما..؟ انه تداخل تكاملي يسير فيه فن الشباب موازيا لفن اساتذتهم، يظل وهذا شاهدناه في تجربة الفنانين الشابين نزار يحيى ومحمد الشمري وجيلهما كيف تماهوا مع شاكر حسن آل سعيد ورافع الناصري وغيرهما من الجيل السابق ثم انفردوا باسلوبهم الخاص المستقل ومشروعهم الفني المختلف عن مشروع اساتذتهم.. وهذا حال الفن التشكيلي العراقي بوجه عام، ولكن هناك تجارب خاصة لفنانين رواد وشباب تميزت على مجاوراتها أو انفردت ومن بين هذه التجارب تجربة الفنان الشاب دلير سعد شاكر وهو ابن الخزاف العراقي المعروف سعد شاكر. عمل مع ابيه في مشغله وتأثر به وكانت بداياته صدى لفن الأب، ولكن دلير شرع ينسلخ عن هيمنة فن أبيه ويؤسس فناً خاصاً به وقد يكون ما قدمه العام الماضي في تجربته المشتركة مع عراقيين آخرين في قاعة الاورفلي من أهم الخطوات المعلنة في تفرده واستقلاله حين قدم اعمالاً من السيراميك مختلفة عن أعمال من سبقوه وأضاف لها عنصر الماء وقدرة الحركة، وفي هذا المعرض جاء دلير بنوع آخر (من فنون الطين) عندما قدم ريليفاً من الفخار فوق سطوح مختلفة من الخشب والحديد وغيرهما من المواد، ويسعى دلير من خلال تجاربه إلى استكشاف طاقات الطين ـ هذه المادة التي تشغله كثيراً وينصب اهتمامه عليها أكثر من اهتمامه بما يعنيه الناتج عنها وكأن هدفه من الفن استنطاق هذه المادة وابراز طاقاتها، وهو - وان تخلص من هيمنة من سبقه بهذا الفن وخاصة والده الخزاف المشهور- إلا انه لم يتخلص من عشق خامة هذا الفن وهي ـ الطين ـ الذي يعد اللغة المشتركة للحوار بين الأجيال المختلفة. تناول دلير موضوعات عديدة ومعاصرة في اعماله توزعت بين الهم الشخصي والجمعي والوطني والانساني فتناول في احدى اللوحات موضوعة العمود الفقري لوالده الذي يعاني من مرض فيه وقد افقده العمل ثم تناول الموضوع الوطني وما يمر به العراق من ظروف قاهرة وقاسية اثناء الحرب وبعدها.. قد تكون موضوعة سجن أبي غريب أبرزها وهو في هذه الموضوعات لا يسجل تقدماً فكرياً لأنه يتناول الواقع ولكنه يسجل تقدماً كبيراً على المستوى الفني ـ التقني ـ خاصة من خلال اسلوبه التجريدي الذي يتحكم بتشكيل الطين وتكوينه وتوزيع الألوان وتفاعلها على سطح اللوحة ـ الريليف ـ وتقنياته وقدرته الكبيرة على زرع الاشكال ذات الخامة الطينية على سطوح من مواد مختلفة تحتضن بعشق ذلك الشكل الفخاري. وبهذه الخطوة الأخيرة يكون دلير من بين الشباب النحاتين الذين حدد ملامح مشروعه وقرر المضي فيه بلا عودة.. والى جانب هذا الطموح الشبابي وهذا الاندفاع نجد الفنان المخضرم صاحب السطوح المتفاوتة التجانس المتحرر من العقائد اللونية والشكلية وصاحب المنحنيات المغلقة - محمد مهر الدين - يقدم عناصر لوحته الفنية باسلوب جديد لا ينتهك فيه بدن اللوحة كثقبها أو كسرها أو حرقها.. كما كان يفعل هو وشاكر حسن آل سعيد.. بقيت عناصر اللوحة ولكنه اعاد توزيعها على سطحه الجديد توزيعاً ينم عن اقتراب نحو التصميم من حيث الشكل العام ولكنه يظل مستوعباً تلك الاشارات الموجودة على حائط ـ مثلاً ـ أو على صندوق متروك أو سلعة ما أو غلاف لسلعة أو ورقة فحص طبي أو علامة تجارية.. أنه ما زال يعمل بطريقة اللاقصدية بتكون الأشياء المهملة أو غير المهمة أو المهمة ولكن التي لا تثير الانتباه. وهكذا نجد على سطح لوحته كل تلك الاشارات التي وضعها الإنسان المضغوط أو الزمن أو عوامل طبيعية أخرى، وهو مع هذه الاشارات يترك حسه يحدد مكان ضربات فرشاته فوق سطح اللوحة بالوان تنسجم أو لا تنسجم مع الوان اللوحة فتكون احياناً مكملة لجمال اللوحة في مسار الجمال المعروف أو أنها متقاطعة مع ذلك المسار لتخلق نوعا جديداً من الجمال.. وهو بهذا الأسلوب يحاول خلق بيئة كونية لا تستجيب لشروط بعينها في كينونتها بل انها تعتمد حركة عفوية يقودها الحس في مدار الرؤية وتقودها الخبرة والتجريب في مدار تقنية انجاز اللوحة.