ما يتضح في تجربته الجديدة معماريات عشوائية لم يتبق منها الا الظلال والاجزاء والمخططات الارضية . إنها أمكنة يعيش فيها المرء ويغادرها ، كأنه مرّ مرورا ، فما من كيان ثابت ومحدد لها ، لكنها مثل ما يطوح المرء اشارة من يديه الى الخلف : هناك!
ما يظهر في هذه التجربة اختزالات امكنة ، ومسافات ، وبيوت موقعة على أنسجة متعددة ، تبدو فيها المخططات الارضية سككاً ، خطوطاً ، لا تعرف إن كانت تخرج منها أو تؤدي اليها ، لكنها بالتأكيد كفّت عن أن تكون مكانا للعيش ، بل ذكرى عيش ، ذكرى رحيل ، وأشياء عابرة قبضنا عليها اثناء تحركنا . وباختصار لا يمسك الفنان منها غير الشظايا ، وهو غير واثق منها الا بوصفها حركة خرجت من مراكز محترقة ، وعودة اليها ، والتفافات حولها ، وحنين اليها لا ينتفع من عودة ، بل يكتفي برسم خريطة رمزية للطرق التي تفضي اليها.
العديد من اعماله توقّع تلك المراكز المحترقة في الوسط . يبدو هذا التموقع مناسبا للتحليل النفسي الذي أجراه الفنان . فالمركز الوسطي ، برغم من اصطلاحيته ، هو القلب . قد نختلف معه في هذا ، ما دمنا نتحدث عن حطام ، لكن في التجربة العاطفية للفنان ، يصح الحديث عن قلب محطوم . إن الموقع المكاني يستبدل بدليل بيولوجي وعاطفي . إن القلب مشغول ومهموم بالرغم من انه يضخ الحياة . إنه محطوم مرتين، كمكان ، أي مدينته التي لم يعد يستطيع تحديد موقعها تماما . وكقلب العاشق الذي يسعى للنسيان فترتد عليه الذكرى .
الدلالات تتكاثر وتستبدل مثل الرموز والتعبير بالكلمات . فهناك من جهة جهة المكان المستقر في قلب ذاكرته، ومن جهة هذا الموقع الذي يضع اصابعه عليه ليقيس نبضه المتسارع من جهة عضويته البيولوجية المهددة . إنها خيارات عاطفية في النهاية.
والحال أن التنفيذ الفني سيعالج اصطلاحية الموقع المركزي على نحو يظهرها بصور متنوعة، فهي ستبدو ثقباً ، وسجناً ، ومكاناً قديماً محترقاً ، ومكاناً محاطاً بسلك ، أو معلّما بعلامات . وقد تتوسع علاماته والاسلاك التي تحيطه باحتلال مساحات أخرى . الاكثر أهمية هو ان الفنان الذي يعدد من هذه المظاهر ، يستخدم تقنيات مختلفة ، كالتلصيق المتعدد الذي يضفي ثخنا وبروزا واضحا ، او الصاق أخشاب بما يمنح هذه المراكز بعدا نحتيا. وعلى الرغم من أن المعالجة الفنية أمعنت في تأكيد هذه المواقع بألوان وأنسجة درامية ، بيد أنها لم تبد غريبة عن النسيج العام للعمل الفني بمجموعه .
في هذه التجربة يلتقي دلير بإمكانات تعبيرية جديدة ، فلوحته المتشكلة من مخاريط خشبية هي تأكيد اضافي ، لكنه مختلف ، للتنظيم المعماري . ولعلّ هذه التجربة التي نفذها بالكثير من الصبر قد تشكل اشتقاقا جديدا لعمل فني يتخذ من التكرار تعويضا عن اختلاف الانسجة الذي ميز عمله حتى الآن .
إن من ميزات تجربة الفنان دلير شاكر عنايته بتقديم نسيج متعدد ، من حيث اللون ، والتلصيق ، واستخدام مواد مختلفة ، ورقية وخشبية ، ومشاهد من رسوم فوتغرافية جاهزة . وأعتقد أن انجازه بهذا الشأن أضفي الحيوية على اعماله وشدّ مساحاتها ووحدها.
سهيل سامي نادر